فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلو قال محمد: إنما أنذركم.. لكان لكم حق أنْ تتشكَّكوا، إنما القائل هو الله، وأنا مجرد مُبلِّغ عن الله الذي يملك أعِنَّة الأحداث، فإذا قال بوجود حدث فلابد أنْ يقع.
ثم يقول تعالى: {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء: 45] وحاسّة السمع هي أول معلوميات الإنسان، وأول حواسه عملًا، وقبل أن يتكلم الطفل لابد أنْ يسمع أولًا، لينطق ما سمعه؛ لأن السمع هو الإدراك الأول المصاحب لتكوين الإدراكات، والأذن- كما قلنا- تسبق العين في أداء مهمتها.
لذلك قدّمه الحق سبحانه، فقال: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36].
والسمع هو الآلة التي لا تتعطّل عن مهمتها، حتى ولو كان الإنسان نائمًا؛ لأن به يتم الاستدعاء؛ لذلك لما أراد الحق سبحانه أنْ يُنيم أهل الكهف هذه المدة الطويلة ضرب على آذانهم، وعطّل عندهم حاسة السمع حتى لا تُزعجهم أصوات الطبيعة خارج الغار، فقال: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11].
ومعنى: {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء} [الأنبياء: 45] صحيح أنهم يسمعون، وآلة السمع عندهم صالحة للعمل، إلا أنه سماعٌ لا فائدة منه، ففائدة السمع أنْ تستجيب لمن يُحدِّثك، فإذا لم تستجِبْ فكأنك لم تسمع، وإذا أمرت العامل مثلًا بشيء فتغافل عنه تقول له: أأنت أطرش؟ ولذلك سماهم القرآن: صُمًا.
وقوله تعالى: {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء: 45] أي: لَيْتهم يتغافلون عن نداء عادي، إنما يتغافلون وينصرفون {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء: 45] حين يُخوِّفهم عذاب الله، والإنذار والتحذير أَوْلَى ما يجب على الإنسان الاهتمام به، ففيه مصلحته، ومن الغباء ألاَّ يهتم به، كما لو أنذرتَ إنسانًا وحذَّرْتَه من مخاطر طريق، وأن فيه ذئابًا أو أُسُودًا أو ثعابين أو قطاعَ طريق، فلا يهتم بكلامك، ولا يحتاط للنجاة بنفسه.
وقلنا: إن الإنذار: أنْ تخبر بشرٍّ قبل أوانه ليستعد لتلافيه، لا أنْ تنذره ساعة الحادث فلا يجد فرصة.
إذن: المسألة ليست طبيعية في التكوين، إنما توجيه إدراكات، كأنْ تكلِّم شخصًا في أمر لا يعجبه، فتجده أذن من طين، وأذن من عجين ينصرف عنك كأنه لم يسمع شيئًا، كأحدهم لما قال لصاحبه: فيك مَنْ يكتم السر؟ قال: نعم سِرُّك في بير، قال: أعطني عشرة جنيهات، فردَّ عليه: كأنِّي لم أسمع شيئًا!!!
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ}.
الآن فقط تنبهتم ووَعَيْتُم؟ الآن بعد أن مسَّكم العذاب؟
ومعنى: {مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء: 46] أي: مسًا ولمسًا خفيفًا، والنفخة: هي الريح الليئة التي تحمل إليك آثارَ الأشياء دون حقيقتها، كأن تحمل لك الريحُ رائحة الورود مثلًا، هي لا تحمل لك الوورد نفسها، إنما رائحتها، وتظل الورود كما هي.
كذلك هذه المسَّة من العذاب، إنها مجرد رائحة عذاب، كما نقول لفح النار الذي نشعر به، ونحن بعيدون عنها.
والنفحة: اسم مرَّة أي: تدل على حدوثها مرة واحدة، كما تقول: جلس جَلسة أي: مرة واحدة، وهذا أيضًا دليل على التقليل. ف {مسَّتْهُمْ} تقليل و{نَفْحَة} تقليل، وكونها مرة واحدة تقليل آخر، ومع ذلك يضجُّون ويجأرون، فما بالك إنْ نزل بهم العذاب على حقيقته، وهو عذاب أبديّ؟!
وقوله تعالى: {لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46] الآن ينطقون، الآن يقولون كلمة الحق التي طالما كتموها، الآن ظهرتْ حساسية الإدراك لديهم، فمن أقلِّ القليل ومن رائحة العذاب يجأؤون، وأين كان هذا الإدراك، وهذه الحساسية من قبل؟ إذن: المسألة- كما قلنا- ليست طبيعة تكوين، إنما توجيه إدراكات.
وقولهم: {يا ويلنا} [الأنبياء: 46] إحساس بما هم مُقبلون عليه، وهذا القول صادر عن مواجيد في النفس وفي الذِّهْن قبل أن ينطق بالكلمة، ثم يُقرُّون على أنفسهم ويعترفون: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46]. {وَنَضَعُ الموازين}.
نقلهم الحق سبحانه من إنكار وتكذيب وتسفيه كلام الرسول، وعدم الإيمان بالوحي، وصَمِّ آذانهم عن الخير إلى مسألة الحساب والميزان القسط، فلماذا هذه النَّقْلة؟ ليُنبههم ويلفت أنظارهم إلى أن هذا الكلام الذي قابلتموه بالتكذيب والتشكيك كان لمصلحتكم، وأن كل شيء محسوب، وسوف يُوزَن عليكم ويُحْصَى، وكأنه ينصحهم، فما تزال رحمانية الله بهم وحِرْصه على نجاتكم.
وكلمة موازين جمع: ميزان، وهو آلة نُقدِّر بها الأشياء من حيث كثافتها، لأن التقدير يقع على عدة أشياء: على الكثافة بالوزن، وعلى المسافات بالقياس.. إلخ.، وقد جعلوا لهذه المعايير ثوابت، فمثلًا: المتر صنعوه من البلاتين حتى لا يتآكل، وهو موضوع الآن- تقريبًا- في باريس، وكذلك الياردة. وجعلوا للوزن معايير من الحديد: الكيلو والرطل.. إلخ.
وقديمًا كانوا يَزِنُون قطعةً من الحجارة تساوي كيلو مثلًا، ويستعملونها في الوزن؛ لأن لها مرجعًا، لَكِن هذه القطعة تتآكل من كثرة الاستعمال، فلابد من تغييرها.
وهنا تكلَّم عن الشيء الذي يَوزَن، ولم يذكر المعايير الأخرى، قالوا: لأن الأشياء التي لها كثافة هي الأكثر، وكاوا يختبرون الأولاد يقولون: كيلو الحديد أثقل، أم كيلو القطن؟ فالولد ينظر إلى القطن فيراه هَشًَّا مُنتفِشًا فيقول: القطن، والقطن أزيد من الحديد في الحجم، لَكِن كثافته يمكن أن تستطرق، فنُرقّق القطن إلى أن يتحول إلى مساحة طول وعرض. إذن: العُمْدة في التقدير: الثقل.
وفي موضع آخر قال تعالى: {والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7] فهل هي موازين متعددة، أم هو ميزان واحد الخَلْق جميعًا سيُحاسبون مرة واحدة، فلن يقفوا طابورًا ينتظر كل منهم دَوْره، بل في وقت واحد؛ لذلك لما سُئِل الإمام على- كرَّم الله وجهه: كيف يُحاسب الله الخَلْق جميعًا في وقت واحد؟ قال: كما يرزقهم جميعًا في وقت واحد. فالمسألة صعبة بالنسبة لك، إنما سهلة ميسورة للحق سبحانه.
والقِسْط: صفة للموازين، وهي مصدر بمعنى عدل، كما تقول في مدح القاضي: هذا قاضٍ عادل. أي: موصوف بالعدل، فإذا أردتَ المبالغة تقول: هذا قاضٍ عَدْل، كأنه هو نفسه عَدْل أي معجون بالعدل؛ لذلك نقول في أسماء الحق سبحانه: الحكم العدل. ولا نقول: العادل.
وهذه المادة قسط لها دور في اللغة، فهي من الكلمات المشتركة التي تحمل المعنى وضده، مثل الزوج تُطلق على الرجل والمرأة، والعَيْن تطلق على العين: العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس، وعلى الذهب والفضة.
كذلك القِسْط نقول: القِسْط بالكسر مثل: حِمْل بمعنى العدل من قَسَط قِسْطًَا. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] ونقول: القَسْط بالفتح يعني: الظلم من قسط قُسوطًا وقَسْطًا، ومنه قوله تعالى: {وَأَمَا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] أي: الجائرون الظالمون.
والقِسْط بمعنى العدل إذا حكم بالعدل أولًا وبداية، لَكِن أقسط يعني كان هناك حكم جائر فعدَّله إلى حكم بالعدل في الاستئناف.
ومن هذه المادة أيضًا قوله تعالى: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} [الأحزاب: 5] فأقسط هنا: أفعل تفضيل، تدل على أن حكم محمد صلى الله عليه وسلم في مسألة زيد كان عَدْلًا وقِسْطًا، إنما حكم ربه تعالى هو أقسط وأعدل.
ومعلوم من قصة زيد بن حارثة أنه فضَّل رسول الله واختاره على أهله، وكان طبيعيًا أنْ يكافئه رسول الله على محبته وإخلاصه ويُعوِّضه عن أهله الذين آثر عليهم رسولَ الله، وكانت المكافأة أن سماه زيد بن محمد.
إذن: الحق سبحانه عدل لرسوله، لَكِن عدل له العدل لا الجوْر، وعَدْل الله أَوْلى من عدل محمد لذلك قال: {أَقْسَطُ عِندَ الله} [الأحزاب: 5] أما عندكم أنتم فقد صنع محمد عَيْن العَدْل.
وقوله تعالى: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ} [الأحزاب: 5] جاء ليبطل التبني؛ ليكون ذلك مقدمة لتشريع جديد في الأسرة والزواج والمحارم وأمور كثيرة في شرع الله لا تستقيم في وجود هذه المسألة، وإلاّ فكيف سيكون حال الأسرة حين يكبر المتنبنّي ويبلغ مَبلْلَ الرجال؟ وما موقفه من الزوجة ومن البنت، وهو في الحقيقة غريب عن الأسرة؟
ومسألة الموازين هذه من المسائل التي وجد فيها المستشرقون تعارضًا في ظاهر الآيات، فجعلوا منها مَاخَذًا على كتاب الله، من ذلك قولهم بالتناقض بين الآيتين: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47] وقوله تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105] حيث أثبت الميزان في الأولى، ونفاه في الثانية.
وقلنا: إن هؤلاء معذورون؛ لأنهم لا يملكون الملكَة اللغوية التي تمكِّنهم من فَهْم كلام الله. ولو تأملنا اللام في {نُقِيمُ لَهُمْ} [الكهف: 105] لا نحلَّ هذا الإشكال، فاللام للملك والانتفاع، كما يقولون في لغة البنوك: له وعليه. والقرآن يقول: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286].
فالمعنى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105] أي: وزنًا في صالحهم، إنما نقيم عليهم وندينهم. كذلك نجد أن كلمة الوزن تُستعمل في اللغة إمَا لوزن الماديّ، أو لوزن المعنى، كما نقول: فلان لا وَزْنَ له في الرجال.
وعلى هذا يكون المعنى: أنهم لا وَزْنَ لذواتهم ومادتهم، إنما الوزن لأعمالهم، فلا نقول: كان من الأعيان، كان أصله كذا وكذا، وهذه المسألة واضحة في قصة ابن نوح عليه السلام: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46].
فالنبوة هنا بُنوّة عمل وإيمان، لا بُنوة ذات.
وقد ظَنَّ الكفار والعصاة أن لهم وَزْنًا عند الله، ومنزلة ستكون لهم في الآخرة، كما كانت لهم في الدنيا، كما جاء في قصة صاحب الجنتين الذي قال لأخيه متباهيًا مفتخرًا. {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَدًا وما أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 34- 36].
لَكِن هيهات أنْ يكون لهم وَزْنٌ في الآخرة، فالوزن في القيامة للأعمال، لا للأعيان.
إذن: المعنى لا نقيم لذواتهم، إنما نزن أعمالهم؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقرابته: «لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأحسابكم».
وقال صلى الله عليه وسلم: «يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئًا» فالذوات والأحساب والأنساب لا قيمة لها في هذا الموقف.
وقوله تعالى: {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] مع أن القاعدة: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وهؤلاء قد ظلموا الحق سبحانه ظُلْمًا عظيمًا حين أشركوا به، وظلموا رسول الله لما قالوا عنه: ساحر، وكاذب ومجنون، ومع ذلك فلن نردّ هذا الاعتداء بمثله بظلمهم.
وقوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء: 47] والخردل: مثال للصِّغَر، للدلالة على استقصاء كل شيء، ولا يزال الخردل هو المقياس العالمي للكيلو، فقد وجدوا حَبَّ الخردل مُتَساويًا في الوزن، فأخذوا منه وحدة الكيلو الآن، وقد أتى بها القرآن منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان.
ومعنى: {أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء: 47] أي: لهم أو عليهم، فإنْ كانت لهم علموا أنَّ الله لا يظلمهم، ويبحث لهم عن أقلِّ القليل من الخير، وإنْ كانت عليهم علموا أن الله يستقصي كل شيء في الحساب، وحَبّة الخردل تدل على صِغَرها على الجحم، وكلمة مثقال تدل على الوزن، فجمع فيها الحجم والوزن.
ثم يُعقِّب سبحانه على هذه المسألة: {وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] فلا أحد يُجيد هذه المسألة ويُدقِّقها كما نفعل نحن، فليست عندنا غفلة بل دِقَّة وضبَطْْ لمعايير الحساب.
ولا تظن أن مسألة الحساب والميزان مسألة سهلة يمكن أن تصل فيها إلى الدقة الكاملة مهما أخذتَ من وسائل الحيطة، فأنت بشر لا تستطيع أنْ تزِنَ الوزن المضبوط؛ لأن المعيار الحديد الذي تزن به عُرْضة في استعماله للزيادة أو النقصان.
فقد يتراكم عليه الغبار ويقع عليه مثلًا نقطة زيت، وبمرور الوقت يزيد المعيار ولو شيئًا ضيئلًا، وهذا في صالح الموزون له، وقد يحدث العكس فينقص الميزان نتيجة الملامسة للأشياء، ولك أن تنظر مثلًا إلى أكرة الباب تراها لامعةً على خلاف ما حولها. إذن: أي ملامسة أو احتكاك للأشياء يُنقصها.
حتى في الموازين الحديثة التي تضمن لك أقصى درجات الدقة فبشرية الإنسان لا يمكن أن تُعطى الدقة المتناهية، وهذا معنى {وكفى بالله حَسِيبًا} [الأحزاب: 39] {وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] لأن معياره تعالى لا يختلف، ولا ينسى شيئًا، ولا يغفل عن شيء. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ} يعني المستهزئين من المشركين {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزوًا} أي ما يتخذونك إلا مهزوءًا بك، والهزؤ: السخرية، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {المشركين إِنَّا كفيناك المستهزءين} [الحجر: 95] والمعنى: ما يفعلون بك إلا اتخذوك هزؤًا {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} هو على تقدير القول، أي يقولون: أهذا الذي، فعلى هذا هو جواب إذا، ويكون قوله: {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزوًا} اعتراضًا بين الشرط وجوابه، ومعنى يذكرها: يعيبها.
قال الزجاج: يقال فلان يذكر الناس، أي يغتابهم، ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله، أي يصفه بالتعظيم ويثني عليه، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناهـ. وعلى ما قالوا لا يكون الذكر في كلام العرب العيب، وحيث يراد به العيب يحذف منه السوء، قيل: ومن هذا قول عنترة:
لا تذكري مهري وما أطعمته ** فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

أي لا تعيبي مهري، وجملة {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون} في محل نصب على الحال، أي وهم بالقرآن كافرون، أو هم بذكر الرحمن الذي خلقهم كافرون، والمعنى: أنهم يعيبون على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يذكر آلهتهم التي لا تضرّ ولا تنفع بالسوء، والحال أنهم بذكر الله سبحانه بما يليق به من التوحيد، أو القرآن كافرون، فهم أحق بالعيب لهم والإنكار عليهم، فالضمير الأول مبتدأ خبره كافرون، وبذكر متعلق بـ الخبر، والضمير الثاني تأكيد.
{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} أي جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من العجل.
قال الفراء: كأنه يقول: بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة.
وقال الزجاج: خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء: خلقت منه كما تقول: أنت من لعب، وخلقت من لعب، تريد المبالغة في وصفه بذلك.